الكوفة مدينة ومدرسة الفقه الشيعي
الكوفة مدينة ومدرسة الفقه الشيعي الاولى :
ظهرت هذه المدرسة من اواسط القرن الثاني (حياة الامام الصادق )واستمرت الى الربع الاول من القرن الرابع (الغيبة الكبرى) .
نقله الى الانترنت بتصرف :مدير الموقع
من المعروف والواضح لدى المتتبعين لتاريخ الشيعة والتشيع ان المدينة المنورة كانت المهد الاول للتشيع والوطن الاول لفقهاء الشيعة من الصحابة والتابعين وان رسول الله هو اول من بذر البذرات الاولى فيها عندما وسم الامام علي (ع) وشيعته بوسام الفوز حينما قال :" يا علي انت وشيعتك هم الفائزون يوم القيامة" وعرف على اثر ذلك جماعة من كبار فقهاء الصحابة بحبهم وتشيعهم لامير المؤمنين (ع) من امثال ابن عباس حبر الامة وفقيهها ،وسلمان الفارسي ، وابو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وابو رافع ابراهيم مولى رسول الله وغيرهم من الصحابة اما من التابعين فكان جمع كثير من شيعة امير المؤمنين عليه السلام حفظوا (السنة النبوية) وتداولوها فيما بينهم ونقلوها الى الاجيال التي تليهم بامانة حتى قال الذهبي في ميزان الاعتدال : "فهذا - أي التشيع- كثر في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو رد حديث هؤلاء – أي الشيعة – لذهبت جملة الاثار النبوية " وفي عهد الامام الصادق بلغ هذا الازدهار الفكري غايته حيث ازدهرت المدينة المنورة في عصره وزخرت بطلاب العلوم ووفود الاقطار الاسلامية ، وانتظمت فيها حلقات الدرس ، وكان بيته جامعة اسلامية يزدحم فيه رجال العلم ، وحملة الحديث من مختلف الطبقات ينتهلون موارد علمه . يقول ابن حجر عن الامام الصادق عليه السلام : نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، واتشر صيته في جميع البلدان ،وروى عنه الائمة الاكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ، ومالك والسفيانيين ، وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني ( 1 ) .
ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نحصي عدد الفقهاء من الشيعة في هذه الفترة ، وما تركوا من آثار ، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتب أعيان الشيعة ، ورجال النجاشي ، والكشي ، وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ليعرف مدى الأثر الذي تركه ( فقهاء الشيعة ) في هذه الفترة التي تكاد .تبلغ قرنا ونصف قرن من تاريخ الإسلام في الدراسة الفقهية ، والمحافظة على السنة النبوية .
إذاً كانت ( المدينة المنورة ) في عهد ( الإمام الباقر والصادق ) عليهما السلام ( مدرسة للفقه الشيعي ) ، ومركزا كبيرا من مراكز الإشعاع العقلي في العالم الإسلامي . الا أن ملامح ( المدرسة الفقهية ) في هذه الفترة في ( المدينة المنورة ) كانت أولية إلى حد ما ، ولم تتبلور المسائل الخلافية في الفقه بين ( الشيعة والسنة ) كما تبلورت بعد في ( الكوفة ) على يد تلامذة ( الإمام الصادق ) عليه السلام واستمرت إلى أيام ( أبي الحسن الرضا) عليه السلام ، فالاختلاف في القياس والاستحسان والرأي والاجتهاد ، ومسائل الصلاة والوضوء ، والحج الخلافية لم تظهر واضحة في هذه الفترة ، وفي هذه المدرسة بالذات ، وإن كانت المدينة منطلق ( الفقه الشيعي ) والمركز الأول للبحث الفقهي عند الشيعة ، وعنها انتقلت المدرسة إلى الكوفة ، وتبلورت المفاهيم ، واتضحت نقاط الالتقاء والاختلاف بين المذاهب الفقهية الإسلامية .
ففي أخريات حياة ( الإمام الصادق عليه السلام ) انتقلت مدرسة الفقه الشيعي من ( المدينة ) إلى ( الكوفة ) ، وبذلك بدأت حياة فقهية جديدة في الكوفة . وكانت الكوفة حين ذاك مركزا صناعيا ، وفكريا كبيرا تقصده البعثات العلمية ، والتجارية . ذكر البلاذري أن أربعة آلاف من رعايا الفرس وفدوا إلى الكوفة ( 2 ) .
وقد أثر وفود العناصر المختلفة إلى الكوفة طلبا للعلم ، أو التجارة في التلاقح العقلي والذهني في هذه المدرسة ، كما كان لها الأثر البالغ في تطوير الدراسات العقلية فيها . وقد هاجر إليها فوق ذلك وفود : من الصحابة والتابعين ، والفقهاء وأعيان المسلمين : من مختلف الأمصار وبذلك كانت ( الكوفة ) حين انتقل إليها ( الإمام الصادق ) عليه السلام وانتقلت إليها ( مدرسة الفقه الشيعي ) من أكبر العواصم الإسلامية . وقد عد البراقي في تاريخ الكوفة 148 صحابيا من الذين هاجروا إلى الكوفة واستقروا فيها ، ما عدا التابعين والفقهاء الذين انتقلوا إلى هذه المدينة ، والذين كان يبلغ عددهم الآلاف ، وما عدا الأسر العلمية التي كانت تسكن هذا القطر . وقد أورد ابن سعد في الطبقات ترجمة ل (850 ) تابعيا ممن سكن الكوفة ( 3 ) . في مثل هذا الوقت انتقل ( الإمام الصادق ) عليه السلام إلى الكوفة أيام ( أبي العباس السفاح ) واستمر بقاء ( الإمام الصادق ) عليه السلام في الكوفة مدة سنتين . وقد اشتغل ( الإمام الصادق ) عليه السلام هذه الفترة بالخصوص في نشر ( المذهب الشيعي ) ، لعدم وجود معارضة سياسية قوية في البين فقد سقطت في هذه الفترة ( الحكومة الأموية ) وظهرت ( الحكومة العباسية ) وبين هذا السقوط ، وهذا الظهور اغتنم ( الإمام الصادق ) عليه السلام الفرصة للدعوة إلى المذهب ، ونشر أصول هذه المدرسة ، فازدلفت إليه الشيعة من كل فج زرافات ووحدانا تتقي منه العلم وترتوي من منهله العذب.
وتروي عنه الأحاديث في مختلف العلوم ، وكان منزله عليه السلام في ( بني عبد القيس من الكوفة ) ( 4 ) . قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت إلى الحيرة إلى ( جعفر بن محمد ) عليه السلام فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس ، فلما كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرق الناس عنه ومضى يريد قبر ( أمير المؤمنين ) عليه السلام فتبعته وكنت أسمع كلامه وأنا معه أمشي . وقال الحسن بن علي بن زياد الوشاء لابن عيسى القمي : إني أدركت في هذا المسجد : يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد عليه السلام ( 5 ) . وكان من بين أصحاب ( الإمام الصادق ) عليه السلام من فقهاء الكوفة : ( أبان بن تغلب بن رباح الكوفي ) نزيل كندة روى عنه عليه السلام ( 30000 ) حديثا . ومنهم : ( محمد بن مسلم الكوفي ) روى عن ( الباقرين ) عليهما السلام ( 40000 ) حديثا ) وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي المتوفى سنة 333 كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن ( الإمام الصادق ) عليه السلام فذكر ترجمة ( 4000 ) رجل ( 6 ) . كل ذلك بالإضافة إلى البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بانتسابها إلى ( الإمام الصادق ) عليه السلام ، واشتهرت بالفقه والحديث كبيت ( آل أعين ) ، وبيت ( آل حيان التغلبي ، وبيت ( بني عطية ) . وبيت ( بني دراج ) ، وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بالتشيع ، واشتهرت بالفقه والحديث ( 7 ) . وقد أدى كل هذا الالتقاء بشخصية ( الإمام الصادق ) عليه السلام في الكوفة ، والاحتفاء به إلى أن يأخذ ( الجهاز العباسي ) الحاكم حذره منه . وقد خاف ( المنصور الدوانيقي ) أن يفتتن به الناس ( على حد تعبيره ) لما رأى من إقبال الفقهاء والناس عامة عليه ، واحتفائهم به ، وإكرامهم له فطلبه إلى ( بغداد ) في قصة طويلة لا يهمنا نقلها . ومهما يكن من أمر فقد ازدهرت ( مدرسة الكوفة ) على يد ( الإمام الصادق ) عليه السلام وتلاميذه ، وبتأثير من الحركة العلمية القوية التي أوجدها ( الإمام الصادق ) عليه السلام في هذا الوسط الفكري . ولم تبق الكوفة إلى حين ( الغيبة الكبرى ) مقاما للأئمة عليهم السلام ولم يتمركز ( فقهاء الشيعة ) كلهم بعد ذلك في الكوفة ، ولم تستمر طول هذه المدة المدرسة التي أنشأها ( الإمام الصادق ) في الكوفة إلا أن الكوفة كانت هي منطلق ( الحركة العقلية ) في ( العصر الثاني ) من عصور تأريخ ( الفقه الشيعي ) ومبعث هذه الحركة ، ومركز الإشعاع وظلت مع ذلك بعد من أهم مراكز ( الفقه الشيعي ) ، وظلت ( البعثات الفقهية الشيعية ) تقصد هذه المدينة بالذات ، ويتعاقب فيها ( فقهاء الشيعة ) مركز الصدارة في التدريس ، والفتيا ، والبحث الفقهي . ورغم العقبات الكبرى التي اصطدم بها ( أئمة الشيعة ) من أهل البيت عليهم السلام ، وفقهاء الشيعة ورواة الحديث : من ضغط الجهاز الحاكم حتى كان بعضهم يعرض إذا رأى الإمام في الطريق ، لئلا يتهم بالتشيع .وبعضهم يلتقي بالإمام ليلا . خوفا من عيون الرقابة المسلطة على بيوت ( أئمة أهل البيت ) عليهم السلام . رغم ذلك كله ، ورغم المعارضات ، والتهم والافتراءات ، والتهريج الذي كان يقوم به الجهاز تقدمت الدراسة الفقهية الشيعية ، وتدوين الحديث شوطا كبيرا في هذه الفترة ، وتركت لنا هذا التراث التشريعي الضخم الذي تمتلئ به المكاتب ، وتحتفل به الدورات الضخمة : كدورات ( بحار الأنوار ، والجواهر ، والحدائق ، ووسائل الشيعة ) الكبيرة . وصنف قدماء ( الشيعة الاثني عشرية ) المعاصرون للأئمة في الأحاديث المروية من طرق أهل البيت ما يزيد على ( ستة آلاف وستمائة كتاب ) مذكورة في كتب الرجال ، على ما ضبطه ( الشيخ محمد بن الحسن بن الحر العاملي ) في آخر الفائدة الرابعة من الوسائل ( 8 ) . ومن بين هذا العدد من الكتب الذي يعتبر وحده مكتبة ضخمة في الحديث والفقه والتفسير من آفاق ( الفكر الإسلامي ) امتازت أربعمائة كتاب اشتهرت بعد ذلك ب : (الأصول الأربعمائة ) . وقد بقي شئ كثير من هذه الأصول الأربعمائة ، فكان شئ كثير منها محفوظا عند ( الشيخ الحر العاملي ) ، وبعضها عند ( العلامة المجلسي ) وبعضها عند ( العلامة النوري ) ، وفقد مع ذلك كثير منها ( 9 ) . ومهما يكن من أمر فقد توسعت في هذه الفترة رواية الحديث وتدوينه وازدهرت بما لا مثيل له في أي عصر آخر ، وفي أي مذهب من المذاهب الإسلامية عامة . فلهشام الكلبي أكثر من مائتي كتاب . ولابن شاذان مائة وثمانون كتابا . ولابن دؤل مائة كتاب . ولابن أبي عمير أربعة وتسعون كتابا ( 10 ) . وقد ترجم ( الشيخ آغا بزرك ) في الذريعة لمائتي رجل من مصنفي تلامذة ( الإمام الصادق ) عليه السلام عدا غيرهم من المؤلفين من أصحاب سائر الأئمة عليهم السلام ، وذكر لهم من كتب الأصول 739 كتابا ( 11 ) . فقد روى ( أبان بن تغلب ) - كما يقول الشيخ في الفهرست - ثلاثين ألف حديث عن ( الإمام الصادق ) عليه السلام . وروى ( آل أعين ) وحدهم أضعاف هذا المقدار . و ( يونس بن عبد الرحمن ) و ( البزنطي ) ومئات من أمثالهم كانوا من كبار المؤلفين والمكثرين في التأليف والتدوين ، وقد جمع كل واحد منهم عشرات المدونات في الحديث والتفسير والفقه . ولم تزدهر ( المدرسة الحديثية ) في مذهب من المذاهب الإسلامية كما ازدهرت عند ( الشيعة ) ، حتى رأينا أن الذهبي يقول في ميزان الاعتدال : لو أردنا أن نسقط رجال الشيعة من إسناد الروايات لم تسلم لنا من السنة إلا القليل النادر . ولا نطيل في تفصيل شرح هذه الحركة الفكرية التي انطلقت من بيت النبوة ، ورعاها فقهاء الشيعة ومحدثوها بعناية فائقة ، واهتمام كبير .
ملامح مدرسة الكوفة :
ولننتقل إلى تخطيط ملامح هذه المدرسة وجدنا فيما تقدم من حديث عن العصر الأول من عصور الفقه الشيعي (وهو عصر المدينة المنورة) عدة ظواهر:
الكوفة مدينة ومدرسة الفقه الشيعي الاولى :
ظهرت هذه المدرسة من اواسط القرن الثاني (حياة الامام الصادق )واستمرت الى الربع الاول من القرن الرابع (الغيبة الكبرى) .
نقله الى الانترنت بتصرف :مدير الموقع
من المعروف والواضح لدى المتتبعين لتاريخ الشيعة والتشيع ان المدينة المنورة كانت المهد الاول للتشيع والوطن الاول لفقهاء الشيعة من الصحابة والتابعين وان رسول الله هو اول من بذر البذرات الاولى فيها عندما وسم الامام علي (ع) وشيعته بوسام الفوز حينما قال :" يا علي انت وشيعتك هم الفائزون يوم القيامة" وعرف على اثر ذلك جماعة من كبار فقهاء الصحابة بحبهم وتشيعهم لامير المؤمنين (ع) من امثال ابن عباس حبر الامة وفقيهها ،وسلمان الفارسي ، وابو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وابو رافع ابراهيم مولى رسول الله وغيرهم من الصحابة اما من التابعين فكان جمع كثير من شيعة امير المؤمنين عليه السلام حفظوا (السنة النبوية) وتداولوها فيما بينهم ونقلوها الى الاجيال التي تليهم بامانة حتى قال الذهبي في ميزان الاعتدال : "فهذا - أي التشيع- كثر في التابعين وتابعيهم مع الدين والورع والصدق ، فلو رد حديث هؤلاء – أي الشيعة – لذهبت جملة الاثار النبوية " وفي عهد الامام الصادق بلغ هذا الازدهار الفكري غايته حيث ازدهرت المدينة المنورة في عصره وزخرت بطلاب العلوم ووفود الاقطار الاسلامية ، وانتظمت فيها حلقات الدرس ، وكان بيته جامعة اسلامية يزدحم فيه رجال العلم ، وحملة الحديث من مختلف الطبقات ينتهلون موارد علمه . يقول ابن حجر عن الامام الصادق عليه السلام : نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان ، واتشر صيته في جميع البلدان ،وروى عنه الائمة الاكابر كيحيى بن سعيد وابن جريح ، ومالك والسفيانيين ، وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني ( 1 ) .
ويطول بنا الحديث لو أردنا أن نحصي عدد الفقهاء من الشيعة في هذه الفترة ، وما تركوا من آثار ، ويكفي الباحث أن يرجع إلى كتب أعيان الشيعة ، ورجال النجاشي ، والكشي ، وتأسيس الشيعة لعلوم الإسلام ليعرف مدى الأثر الذي تركه ( فقهاء الشيعة ) في هذه الفترة التي تكاد .تبلغ قرنا ونصف قرن من تاريخ الإسلام في الدراسة الفقهية ، والمحافظة على السنة النبوية .
إذاً كانت ( المدينة المنورة ) في عهد ( الإمام الباقر والصادق ) عليهما السلام ( مدرسة للفقه الشيعي ) ، ومركزا كبيرا من مراكز الإشعاع العقلي في العالم الإسلامي . الا أن ملامح ( المدرسة الفقهية ) في هذه الفترة في ( المدينة المنورة ) كانت أولية إلى حد ما ، ولم تتبلور المسائل الخلافية في الفقه بين ( الشيعة والسنة ) كما تبلورت بعد في ( الكوفة ) على يد تلامذة ( الإمام الصادق ) عليه السلام واستمرت إلى أيام ( أبي الحسن الرضا) عليه السلام ، فالاختلاف في القياس والاستحسان والرأي والاجتهاد ، ومسائل الصلاة والوضوء ، والحج الخلافية لم تظهر واضحة في هذه الفترة ، وفي هذه المدرسة بالذات ، وإن كانت المدينة منطلق ( الفقه الشيعي ) والمركز الأول للبحث الفقهي عند الشيعة ، وعنها انتقلت المدرسة إلى الكوفة ، وتبلورت المفاهيم ، واتضحت نقاط الالتقاء والاختلاف بين المذاهب الفقهية الإسلامية .
ففي أخريات حياة ( الإمام الصادق عليه السلام ) انتقلت مدرسة الفقه الشيعي من ( المدينة ) إلى ( الكوفة ) ، وبذلك بدأت حياة فقهية جديدة في الكوفة . وكانت الكوفة حين ذاك مركزا صناعيا ، وفكريا كبيرا تقصده البعثات العلمية ، والتجارية . ذكر البلاذري أن أربعة آلاف من رعايا الفرس وفدوا إلى الكوفة ( 2 ) .
وقد أثر وفود العناصر المختلفة إلى الكوفة طلبا للعلم ، أو التجارة في التلاقح العقلي والذهني في هذه المدرسة ، كما كان لها الأثر البالغ في تطوير الدراسات العقلية فيها . وقد هاجر إليها فوق ذلك وفود : من الصحابة والتابعين ، والفقهاء وأعيان المسلمين : من مختلف الأمصار وبذلك كانت ( الكوفة ) حين انتقل إليها ( الإمام الصادق ) عليه السلام وانتقلت إليها ( مدرسة الفقه الشيعي ) من أكبر العواصم الإسلامية . وقد عد البراقي في تاريخ الكوفة 148 صحابيا من الذين هاجروا إلى الكوفة واستقروا فيها ، ما عدا التابعين والفقهاء الذين انتقلوا إلى هذه المدينة ، والذين كان يبلغ عددهم الآلاف ، وما عدا الأسر العلمية التي كانت تسكن هذا القطر . وقد أورد ابن سعد في الطبقات ترجمة ل (850 ) تابعيا ممن سكن الكوفة ( 3 ) . في مثل هذا الوقت انتقل ( الإمام الصادق ) عليه السلام إلى الكوفة أيام ( أبي العباس السفاح ) واستمر بقاء ( الإمام الصادق ) عليه السلام في الكوفة مدة سنتين . وقد اشتغل ( الإمام الصادق ) عليه السلام هذه الفترة بالخصوص في نشر ( المذهب الشيعي ) ، لعدم وجود معارضة سياسية قوية في البين فقد سقطت في هذه الفترة ( الحكومة الأموية ) وظهرت ( الحكومة العباسية ) وبين هذا السقوط ، وهذا الظهور اغتنم ( الإمام الصادق ) عليه السلام الفرصة للدعوة إلى المذهب ، ونشر أصول هذه المدرسة ، فازدلفت إليه الشيعة من كل فج زرافات ووحدانا تتقي منه العلم وترتوي من منهله العذب.
وتروي عنه الأحاديث في مختلف العلوم ، وكان منزله عليه السلام في ( بني عبد القيس من الكوفة ) ( 4 ) . قال محمد بن معروف الهلالي : مضيت إلى الحيرة إلى ( جعفر بن محمد ) عليه السلام فما كان لي فيه حيلة من كثرة الناس ، فلما كان اليوم الرابع رآني فأدناني وتفرق الناس عنه ومضى يريد قبر ( أمير المؤمنين ) عليه السلام فتبعته وكنت أسمع كلامه وأنا معه أمشي . وقال الحسن بن علي بن زياد الوشاء لابن عيسى القمي : إني أدركت في هذا المسجد : يعني مسجد الكوفة تسعمائة شيخ كل يقول : حدثني جعفر بن محمد عليه السلام ( 5 ) . وكان من بين أصحاب ( الإمام الصادق ) عليه السلام من فقهاء الكوفة : ( أبان بن تغلب بن رباح الكوفي ) نزيل كندة روى عنه عليه السلام ( 30000 ) حديثا . ومنهم : ( محمد بن مسلم الكوفي ) روى عن ( الباقرين ) عليهما السلام ( 40000 ) حديثا ) وقد صنف الحافظ أبو العباس بن عقدة الهمداني الكوفي المتوفى سنة 333 كتابا في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن ( الإمام الصادق ) عليه السلام فذكر ترجمة ( 4000 ) رجل ( 6 ) . كل ذلك بالإضافة إلى البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بانتسابها إلى ( الإمام الصادق ) عليه السلام ، واشتهرت بالفقه والحديث كبيت ( آل أعين ) ، وبيت ( آل حيان التغلبي ، وبيت ( بني عطية ) . وبيت ( بني دراج ) ، وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية التي عرفت بالتشيع ، واشتهرت بالفقه والحديث ( 7 ) . وقد أدى كل هذا الالتقاء بشخصية ( الإمام الصادق ) عليه السلام في الكوفة ، والاحتفاء به إلى أن يأخذ ( الجهاز العباسي ) الحاكم حذره منه . وقد خاف ( المنصور الدوانيقي ) أن يفتتن به الناس ( على حد تعبيره ) لما رأى من إقبال الفقهاء والناس عامة عليه ، واحتفائهم به ، وإكرامهم له فطلبه إلى ( بغداد ) في قصة طويلة لا يهمنا نقلها . ومهما يكن من أمر فقد ازدهرت ( مدرسة الكوفة ) على يد ( الإمام الصادق ) عليه السلام وتلاميذه ، وبتأثير من الحركة العلمية القوية التي أوجدها ( الإمام الصادق ) عليه السلام في هذا الوسط الفكري . ولم تبق الكوفة إلى حين ( الغيبة الكبرى ) مقاما للأئمة عليهم السلام ولم يتمركز ( فقهاء الشيعة ) كلهم بعد ذلك في الكوفة ، ولم تستمر طول هذه المدة المدرسة التي أنشأها ( الإمام الصادق ) في الكوفة إلا أن الكوفة كانت هي منطلق ( الحركة العقلية ) في ( العصر الثاني ) من عصور تأريخ ( الفقه الشيعي ) ومبعث هذه الحركة ، ومركز الإشعاع وظلت مع ذلك بعد من أهم مراكز ( الفقه الشيعي ) ، وظلت ( البعثات الفقهية الشيعية ) تقصد هذه المدينة بالذات ، ويتعاقب فيها ( فقهاء الشيعة ) مركز الصدارة في التدريس ، والفتيا ، والبحث الفقهي . ورغم العقبات الكبرى التي اصطدم بها ( أئمة الشيعة ) من أهل البيت عليهم السلام ، وفقهاء الشيعة ورواة الحديث : من ضغط الجهاز الحاكم حتى كان بعضهم يعرض إذا رأى الإمام في الطريق ، لئلا يتهم بالتشيع .وبعضهم يلتقي بالإمام ليلا . خوفا من عيون الرقابة المسلطة على بيوت ( أئمة أهل البيت ) عليهم السلام . رغم ذلك كله ، ورغم المعارضات ، والتهم والافتراءات ، والتهريج الذي كان يقوم به الجهاز تقدمت الدراسة الفقهية الشيعية ، وتدوين الحديث شوطا كبيرا في هذه الفترة ، وتركت لنا هذا التراث التشريعي الضخم الذي تمتلئ به المكاتب ، وتحتفل به الدورات الضخمة : كدورات ( بحار الأنوار ، والجواهر ، والحدائق ، ووسائل الشيعة ) الكبيرة . وصنف قدماء ( الشيعة الاثني عشرية ) المعاصرون للأئمة في الأحاديث المروية من طرق أهل البيت ما يزيد على ( ستة آلاف وستمائة كتاب ) مذكورة في كتب الرجال ، على ما ضبطه ( الشيخ محمد بن الحسن بن الحر العاملي ) في آخر الفائدة الرابعة من الوسائل ( 8 ) . ومن بين هذا العدد من الكتب الذي يعتبر وحده مكتبة ضخمة في الحديث والفقه والتفسير من آفاق ( الفكر الإسلامي ) امتازت أربعمائة كتاب اشتهرت بعد ذلك ب : (الأصول الأربعمائة ) . وقد بقي شئ كثير من هذه الأصول الأربعمائة ، فكان شئ كثير منها محفوظا عند ( الشيخ الحر العاملي ) ، وبعضها عند ( العلامة المجلسي ) وبعضها عند ( العلامة النوري ) ، وفقد مع ذلك كثير منها ( 9 ) . ومهما يكن من أمر فقد توسعت في هذه الفترة رواية الحديث وتدوينه وازدهرت بما لا مثيل له في أي عصر آخر ، وفي أي مذهب من المذاهب الإسلامية عامة . فلهشام الكلبي أكثر من مائتي كتاب . ولابن شاذان مائة وثمانون كتابا . ولابن دؤل مائة كتاب . ولابن أبي عمير أربعة وتسعون كتابا ( 10 ) . وقد ترجم ( الشيخ آغا بزرك ) في الذريعة لمائتي رجل من مصنفي تلامذة ( الإمام الصادق ) عليه السلام عدا غيرهم من المؤلفين من أصحاب سائر الأئمة عليهم السلام ، وذكر لهم من كتب الأصول 739 كتابا ( 11 ) . فقد روى ( أبان بن تغلب ) - كما يقول الشيخ في الفهرست - ثلاثين ألف حديث عن ( الإمام الصادق ) عليه السلام . وروى ( آل أعين ) وحدهم أضعاف هذا المقدار . و ( يونس بن عبد الرحمن ) و ( البزنطي ) ومئات من أمثالهم كانوا من كبار المؤلفين والمكثرين في التأليف والتدوين ، وقد جمع كل واحد منهم عشرات المدونات في الحديث والتفسير والفقه . ولم تزدهر ( المدرسة الحديثية ) في مذهب من المذاهب الإسلامية كما ازدهرت عند ( الشيعة ) ، حتى رأينا أن الذهبي يقول في ميزان الاعتدال : لو أردنا أن نسقط رجال الشيعة من إسناد الروايات لم تسلم لنا من السنة إلا القليل النادر . ولا نطيل في تفصيل شرح هذه الحركة الفكرية التي انطلقت من بيت النبوة ، ورعاها فقهاء الشيعة ومحدثوها بعناية فائقة ، واهتمام كبير .
ملامح مدرسة الكوفة :
ولننتقل إلى تخطيط ملامح هذه المدرسة وجدنا فيما تقدم من حديث عن العصر الأول من عصور الفقه الشيعي (وهو عصر المدينة المنورة) عدة ظواهر:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق